أخلقة الحياة السياسية .. نجاة بلد/ جدو ولد خطري

إن من تحمله ظروف قاهرة مؤقتة على الإقامة في الخارج و هو مهتم بما يجري في بلده  و  يتابع  الأحداث عبر المواقع و وسائل التواصل الاجتماعي يصعب عليه أن يستوعب حقيقة ما يجري على الساحة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، ذلك  ان  التحلي بالموضوعية في تحليل الحدث و النقد البناء شرطان أساسيان لنيل المدون أو الكاتب للمصداقية الضرورية التي تجعل ما ينقل من معلومات متقبلة لدى القراء

إنك اذا أمعنت النظر فيما صدر من نقد مكتوب أو مقروء، أو في بث مباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام قل ان تجد ناقدًا معارضا يذكر مسألة إيجابية في العمل الحكومي برمته ، أو ان تجد كاتبا مواليا يركز في مقاله على خطأ كارثي أرتكب في أي قطاع من القطاعات الوطنية ذات الأولوية .

فهل رأيت مدونا معارضا يذكر على سبيل المثال  

الإنجازات السياسية الواردة في التعهدات الانتخابية لرئيس الجمهورية ،كأخلقة الحياة السياسية من خلال إلتزام العمل السياسي بمبادئ أخلاقية  و كذا تطبيع المشهد السياسي الوطني ، او في مجال التآزر على سبيل المثال لا الحصر  كتشييد عشرات المدارس الابتدائية و الثانوية و المراكز الصحية و توزيع المواد الغذائية و مبالغ النقدية معتبرة على عشرات آلاف الأسر المعوزة و 

حزمة الإجراءات التي طالت جميع الشرائح الهشة بزيادة دخلها أو تحمل علاجها الطبي أو خلق دخل جديد في شكل منح و هبات من الدولة تراعي ظروف كل فئة على حدة،او الطفرة الحقيقية التي عرفتها شركة المعادن الوطنية ” أسنيم “، هل رأيت مدونا معارضا يعرج على هذه الإنجازات ؟ ، أو رأيت مدونا مواليا للنظام ينتقد أي تقصير حصل في تسيير صندوق كورونا أو أي إجراء صدر من السلطة مخالفا لسياسة محاربة الفساد أو المفسدين.

و هل رأينا  أي كاتب او مدون  يعرض عن تناول موضوع وطني قد يمس من اللحمة الوطنية أو يسبب ضررا إقتصاديا أو سياسيا لإحدى شرائح مجتمع تحتاج وحدته إلى من يدعمها و يقويها، لا إلى من يمزقها و يعرضها للمخاطر خدمة لاهداف غامضة ،او يترفّع عن الشتائم والاتهامات و النزول بالخطاب السياسي الى الدرك الأسفل يصل الى حدّ هتك الأعراض و يتجنّب الممارسات التي لا تتماشى ومبادئ الديموقراطية وقيم الجمهورية .

إن مجتمعنا يحتاج إلى تضافر جهود ابنائه حتى يعم الأمن و الاستقرار و يتسنى إعادة بناء ما هدمته العشرية الماضية مما اطلعنا عليه علما أن ما خفي أعظم .

إن معايير التقويم عندنا قد عرفت مع الأسف إختلالات غير مسبوقة فقد يعيّر الشخص الفضيل المستقيم بفضله و استقامته ، و قد يمدح ذي الأخلاق الرذيلة لخسة أخلاقه التي قد تترجم بعبارة ” أتفگريش” المتداولة شعبيا مما يترجم قول الشاعر

قد يكرم القرد اعجابا بخسته                                      .                       وقد يهان لفرط النخوة السّبع 

إن الإصلاح بيّن و الفسادَ بيّن كوضوح الحلال و الحرام و إن مسيرة الإصلاح و محاربة الفساد و المفسدين مستمرة ،و قد تشوبها أخطاء و إختلالات كأي عمل انساني ، لكن النهج الذي حدد في تعهدات السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني واضح وضوح الشمس في رابعة النهار . فل يكن سلوكنا كنخبة و كمواطنين فيما نكتبه و نقوله داعما لهذا النهج ،بالنقد البناء لما يشوبه من اخطاء ، و الدعم الجاد بالقلم و الكلمة و الصورة لما يخدم المصلحة الوطنية و يساعد على تحقيق الأهداف التي على اساسها منح الشعب الموريتاني ثقته لرئيس الجمهورية

إن كل ملف مهما كان حجمه يحال إلى السلطات القضائية المختصة قد يتطلب تحقيقا معمقا لضمان صدور حكم عادل يصون مصلحة الشعب و يضمن لكل ذي حق حقه و قد لا يتحمل المواطن الذي تعود على الحكم الاستبدادي و القرار الأحادي ما يمليه الفصل بين السلطات، الذي يعطي للقضاء الكلمة الفصل في كل قضية تحال اليه مهما كانت أهميتها و حساسيتها لا سيما اذا تعلق الأمر بعشرية أتت اعلى الأخضر و اليابس ،مع تشعب أعداد و أنواع المفسدين و صعوبة تتبع أثرهم في الداخل و الخارج

فلنتحلى اذا بالصبر و لنتذكر ان عجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء و أن القضاء سيصدر بكل شفافية و استقلالية حكمه النهائي دون ضغط أو تأثير من السلطة التنفيذية ، هذا هو الطريق الأسلم لنجاة البلد من ورطة الفساد و وصول سفينته إلى بر الأمان و الله ولي التوفيق.

6- بيت القصيد… إسلكو أحمد إزيد بيه

على الطريق الرابط بين عاصمة ولاية الحوض الشرقي، النعمه ومدينة ولاته التاريخية، وفي المنتصف تقريبا بين “گلب انگادي” وقرية “انواودار”، ينتصب   “خشم البهوه” شامخا كأبعد موقع إلى الغرب استطاعت سلسلة “السن” الجبلية احتلاله في حربها الجيولوجية ضد منخفض “الحوظ”، بتحريض خفي من “عَكل آوكار“…
 يوجد على أعلى هذا “الخشم”، ضريح ضخم، تمكن مشاهدته على بعد عشرات الكيلومترات، فهو الأعلى والأشهر في المنطقة ولعله كذلك في كل موريتانيا؛ إنه المثوى الأخير للأميرة البلاوية الناسكة “البهوه بنت اعلي ولد علول”، تغمدها الله تعالى برحمته الواسعة وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة. 
بالكاد يستطيع من يجيد تسلق المرتفعات ويتمتع باللياقة البدنية اللازمة ويتوفر على الوقت الكافي، الوصول إلى هذا القبر الفريد وذلك من الناحية الشمالية-الغربية فقط؛ فالجبال تحصنه شرقا والانحدارات الشديدة تؤمنه من الجهات الأخرى. لقد عشت في شبابي تجربة  الصعود تلك مرات، فكنت في كل واحدة منها أحتاج إلى السير على أربع، أو الجلوس اضطراريا تهدئة للنبض والتقاطا للأنفاس وتفاديا للدوخة ؛ في هذه الظروف، كنت أستأنف الحركة بحذر مضاعف خوفا من الانزلاق فالتدحرج حتى سفح الجبل، علما بأنني لم أكن أحمل سوى ما أستحضره من دعاء للميت أويخطر ببالي من استفهامات يمليها المقام،  فأقدم رجلا تلو الأخرى، مستعينا بالنتوءات النادرة و غير الآمنة دائما وببعض الشقوق التي نحتتها السيول والحرارة بصعوبة في هذه الجدران الصخرية، على مر القرون… فكيف، يا ترى، وصل نعش “الأميرة” إلى أعلى هذا الجبل؟ وكيف تم جهر (قهر) هذا القبر في أرضية صلبة وبأية أدوات، فرحيل “البهوه ” -رحمها الله تعالى- حدث  قبل وصول المستعمر ومعداته التقنية المتطورة  إلى منطقة “الحوظ”، بحوالي سبعين سنة؟ وكيف لسيدة تدّعي بعض الروايات المحلية أنها استشهدت على يد “الكفيه ولد بوسيف”، في أوج سلطانه، أن تحظى جنازتها بكل هذا التكريم الذي لم يظفر به أي من أمراء “الحوظ”؟ فمن كان سيجرؤ (حتى) على المشاركة في مراسيم دفن تقديرية  لامرأة غدرها “الكفيه” في قلب مرابع الإمارة؟ أليس من المستحيل، من منظور الشيم المتعارف عليها آنذاك لدى نبلاء “أولاد امبارك”، أن يقسو  أمير على سيدة، وبالأحرى أن يغتالها، خاصة إذا كانت هذه الأخيرة تنتمي إلى قبيلة ذات شوكة ومهابة وفي بيت قال “بول مرتي” بخصوص أهله : “على الرغم أنهم زوايا، إلا أنهم محاربون من الطراز الأول عند اللزوم”.
فور الاستواء على سطح “الخشم”، نشعر بدهشة كبيرة أمام الضريح الحجري الذي يبدو أضخم من المتوقع؛ وبمجرد إلقاء نظرة أفقية، تبدأ رحلة تحليق افتراضي فوق ما شكل يوما  “الحوظ السعيد” الذي رسمه “الكفيه” من خلال لوحاته الأدبية البديعة…
لم أقتنع يوما برواية الاغتيال، لأنها لا تصمد أمام امتحان النسق الثقافي والاجتماعي وقتها، وتصطدم، كما لاحظنا، رأسا بالمعطيات المادية، فما حقيقة الأمر إذا؟  
للإجابة على هذا السؤال، سأورد فيما يلي ما سمعته مباشرة من بعض الشيوخ في مدينة النعمه وقرية “انواودار” وقرية “ازريبه” وأخيرا “انواكشوط”، لأترك للقارئ(ة) حرية تصور الإجابة التي تناسبه (ا).
١- النعمه : في نهاية ثمانينات القرن الماضي، اتصلت بشخصيات تقليدية في هذه المدينة العريقة، وسألتهم عن ظروف وفاة “البهوه” رحمها الله تعالى؛ فأجابوني تقريبا جميعا بأنها تم اغتيالها على يد “الكفيه” عفا الله عنه. كنت كلما سألت أحد محدثيّ عن سبب الاغتيال، اعتذر عن عدم معرفة التفاصيل، باستثناء شيخ واحد شرح لي : “اشتعلت يومها حرب ضروس بين “أولاد امبارك” و”أولاد بله” وسمع  “الكفيه” بأن طفلا (يُخشى أن يهم يوما  بالانتقام) تم إيواؤه خفية من طرف “البهوه” ؛ فزار “الكفيه” الحي المذكور، وكان لدى “البهوه” ابن في سن هذا الطفل، فطلب منها “الكفيه” تحديد أيهما “البلاوي”، فرفضت ذلك. وخوفا من أن يخطئ في هوية الطفل، وانتقاما من “البهوه” لرفضها التفريق بين ابنها وابن أخيها، قرر “الكفيه” قتلها هي!”.
٢-“انواودار” : في نفس الفترة، التقيت مرتين أو ثلاثة بجماعات من شيوخ هذه القرية المضيافة التابعة لبلدية “ولاته”، وأكدوا لي ما ذهب إليه نظراؤهم في عاصمة الولاية بخصوص حادث الاغتيال ؛ أما عن ظروفه، فلم أوفق في الحصول على أية تفاصيل. 
٣- “ازريبه” : حدثني شيوخ هذه القرية التابعة لبلدية “بنگو”، أن حادث الاغتيال غير صحيح البتة، وأن جدة بعضهم “البهوه” امرأة “تائبة”، حباها الله تعالى بصيت وبركة كبيرين ؛ وتوفيت رحمها الله تعالى في فصل غزير الأمطار، فكان كلما حاول الناس جهر قبرها، غمرته المياه، فقرر أبناء “الأميرة” دفنها فوق جبل (“الخشم” الذي أصبح فيما بعد يحمل اسمها). ونظرا لكثرة السواعد إبان مراسيم الدفن، لم تشكل التعقيدات التوبوغرافية أية عقبة تذكر أمام حفر القبر وجلب الحجارة وحمل الجنازة.
٤- انواكشوط: في إطار اهتمامي بهذا اللغز، حدثني شيخ من أهل “الحوظ” كان مقيما بنواكشوط، فأكد فرضية الاغتيال وأضاف : “زار “الكفيه” الحي الذي كانت تقطنه “البهوه”، فحدثت مشادات بين الإثنين، تطرقت إلى مسائل دينية أزعجت “الأمير”، فوجه سلاحه صوبها وأطلق النار ليرديها قتيلة على الفور”.

في الواقع، “بيت القصيد” فيما يتعلق باهتمامي بالأمير “الكفيه ولد بوسيف” رحمه الله تعالى، هو حل هذا اللغز التاريخي المحير بالنسبة لي ؛ فالأميرة “البهوه بنت اعلي ولد علول” رحمها الله تعالى، شخصية تستحق الدراسة والبحث، كأشهر امرأة مسلمة في منطقة “الحوظ”، فرضت لنفسها تقديرا واحتراما لا تخطئهما (اليوم) العينملاحظة: أطلب من كل من سلك طريق النعمه-ولاته (“الباطن”)، أن ينتبه إلى “خشم البهوه” وأن يترحم مشكورا على صاحبة هذا القبر الرفيع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى